السودان- غربة الروح، أمنيات مجهضة، وأهوال تحيق.

المؤلف: الصادق الفقيه11.04.2025
السودان- غربة الروح، أمنيات مجهضة، وأهوال تحيق.

غربة الروح

مما لا شك فيه أن القوى السياسية "المتشبثة بأيديولوجياتها" في السودان لا تُعير اهتمامًا كافيًا لدروس التاريخ، ولا تُولي التقدير اللازم لقيمة "المكان"، أو تراب الوطن العزيز، أو حتى الأرض التي تُعادل العرض والشرف في حسابات الأمم. ونتيجة لذلك، فإن التخلي عن الأفكار المدروسة بعناية لمجرد اختلافها أصبح أمرًا اعتياديًا، يُمارس بتسرع وعدم اتزان، على الرغم من المخاطر الجسيمة التي يحملها في طياته. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في "غربة الروح الوطنية"، وفي أي سعي لا يُعلي من شأن "المكان" ليجعله مرادفًا لشرف الإنسان، ولا ينظر إلى الأرض باعتبارها مساوية للعرض، وتستحق الدفاع عنها بكل غالٍ ونفيس.

إن الأرض هي العرض، وهذا ليس مجرد تعبير بلاغي، بل حقيقة راسخة. فنحن هنا لا نتحدث عن قياس أحلامنا بسرعة الضوء في الفراغ، ولا نسعى لإثبات أي إنجاز مُشَرِّف لحكومة تم انتخابها، أو قامت بانتفاضة شعبية لإزاحة حكم العسكر، بل نخضع لمنطق الدين والعقل والمنطق والعرف السليم، الذي يفرض علينا هذا الواجب. ولكن للأسف، اتضح أن القوى السياسية "المؤدلجة"، التي لا تستلهم قيم الدين، ولا تستضيء بمعاني المنطق، ولا تلتزم بشروط العقل، ولا تتمسك بثوابت العرف النبيل، سرعان ما تتناحر عندما تشتد الخلافات بين قادتها حول "المصالح" الدنيئة، ويحتدم الاقتتال بينهم على "المطامع" الشخصية، وغالبًا ما يصمون آذانهم عن مواعظ التاريخ، ولا يستلهمون من عبره.

يقول الأديب الأمريكي الشهير مارك توين: "قد لا يعيد التاريخ نفسه، لكنه يغفو". ونحن نتمنى أن يصحو تاريخنا من غفوته هذه، دون أن نثقل كاهله بالروايات البديلة المقترحة لدولة ما بعد الاستقلال، والتي تُقلل من شأن الفاعلين السياسيين الذين قادوا مسيرة انعتاق المجتمع السوداني من نير الاستعمار البريطاني البغيض.

إذًا، ما هي الآثار المترتبة على ما يمكن أن نسميه، مع التحفظ، بوجهة نظر الحالمين لتصور "المكان" و"الإنسان"؟ إذا كان "التخيل" لا يُشير في قاموس "الناشطين" إلى نوع معين من النشاط السياسي، يختلف جوهريًا عن أشكال التفكير الإيجابي؛ مثل الإيمان بالقيمة العليا في الوجود، ألا وهي "الحياة"، والتي يزهقها المتمردون في الدولة والمجتمع بقلوب متحجرة. ولذلك، فإن الحديث "غير المسؤول" عن "ديمقراطية" يجلبها قاتل وسارق ومنتهك للأعراض، باعتباره القوة المسؤولة عن إيصال دعاة "التغيير" إلى سدة الحكم، هو محض تضليل، أو هو بالتأكيد خداع سافر لا يحتاج إلى دليل لإثبات زيفه.

وبما أننا نعيش الآن خارج دائرة "المكان"، الذي هو السودان في هذه الحالة، إلى جانب غياب العديد من العلامات "الزمنية" المعتادة لدينا على مدار العام؛ مثل الإجازات الرسمية، ومواسم الحصاد الوفير، وأعياد الميلاد المجيدة، واحتفالات المولد النبوي الشريف، وغيرها من المناسبات العزيزة، فإن هذا الغياب يبدو وكأنه سرمدي لا نهاية له.

إلا أنه يكشف أيضًا أن الأشهر القليلة الماضية قد مرت في غمرة التحولات الخطيرة التي عصفت بحياة البلاد والعباد، حيث جرى تجريف "المكان"، وتخريب "الوجدان". فالناس يعانون من صمت قسري، ويكتمون آهاتهم، وكان يوم 15 أبريل المشؤوم هو نفسه شهر رمضان المبارك، الذي هل هلاله، وكان هو نفسه شهر الثورة الثانية والثالثة؛ بعد أكتوبر الأولى. ولكن كانت حصيلة الثورات الثلاث عبارة عن هشيم تذروه رياح العجز والخلافات المريرة، ليكمل التمرد على الدولة والمجتمع حصاد "المأساة" بالاعتداء على كل المقدسات.

وكما ذكرت روث أوغدن، أستاذة علم النفس بجامعة ليفربول البريطانية: "لقد انخرطنا في روتين ممل ولم نفعل أيًا من الأشياء التي اعتدنا عليها لمساعدتنا في تحديد الفترة الزمنية لدينا"؛ فهل نشهد سقوط نظام عسكري، أم فشل مرحلة انتقالية، أم ديمقراطية طائفية تعاني من الضعف والتخلف؟ ولا توجد إجابة أبلغ من الواقع المرير الذي نعيشه، حيث يقتتل الجميع لإعادة إنتاج نفس الأخطاء.

لذلك، فإن السعي لخوض أكبر قدر ممكن من التجارب الجديدة، حتى لو كانت صغيرة، هو إحدى الوسائل التي يمكننا من خلالها استعادة بعض السيطرة على واقعنا، وإبطاء الشعور بأن الوقت يمر بسرعة جنونية. لذا، يجب علينا الاحتفاظ بـ "مذكرات" شخصية كوسيلة لتعزيز "الذكريات" في أذهاننا، مما سيساعد أيضًا على منع هذا الشعور بعدمية الوقت، وكأنه فترة ضائعة لا محالة.

أمنيات مُجْهضة

لقد تمنينا جميعًا أن ينتهي عام 2023 بأحداثه المأساوية في أقرب وقت ممكن، ولكن من الضروري أيضًا أن نلتفت إلى الوراء؛ لنتأمل في المصائب التي شهدناها، ونتذكرها لغرض أسمى من مجرد استعراض الأخبار القاتمة التي أرهقت أعصابنا بلا هوادة. إن تبني مبدأ التجديد، الذي يحمله كل انتصار على قوى الشر، هو إحدى الطرق لتحقيق ذلك؛ وإذا لم يكن لدينا شيء آخر نفخر به، فسيكون لدينا على الأقل شيء مختلف نتحدث عنه في مكالمة النصر القادمة. ولكن قبل ذلك وبعده، سيظل السؤال المؤلم يلاحقنا: لماذا اندلعت الحرب في السودان؟

قد يبدو هذا السؤال صعبًا ومحرجًا في آن واحد، لأنه مما لا شك فيه أن العديد من العوامل قد تضافرت في إشعال فتيلها. فحصد ألسنة السياسيين، الذين لوحوا بالحرب كورقة رابحة للوصول إلى مقاعد سلطة لا يستحقونها، كان أقوى من صراخ الشعارات الجوفاء التي تشهد عليهم بدورها.

ومن المؤكد أن إحدى الحجج الهامة التي تمسك بها المتصارعون هي أن القوى السياسية المتناحرة كانت تعارض الاستقرار، لأنها استندت إلى "مشروعية الثورة" بدلًا من "مشروعية الانتخاب"، ورفعت شعارات الإقصاء بدلًا من وضع أسس للإجماع الوطني، وحرضت الشارع على الدولة بمؤسساتها وأنظمتها وقواتها النظامية، وتجاهلت تمامًا "مشروعية الإنجاز"، وبذلك أرست سنة سيئة أعادت إلى الأذهان جميع التجارب الانتقالية المضطربة.

وهناك تفسير آخر يتمثل في أن نظرية المؤامرة كانت هي السائدة في تقييم العلاقات بين الأطراف المختلفة، وكانت الأوصاف المستخدمة بمثابة إشارات إلى التردد في تحديد توقيت البداية، والجهل التام بمآلات النهاية. وبذلك، تكون الحرب في حد ذاتها هي الوثيقة التي تصنع التاريخ، وإذا لم يتم التعامل مع تجاوزاتها بصرامة ومحاسبة دقيقة، من خلال دراسة الأسباب التي أدت إليها، فلن يكون للسودان مستقبل مستقر وآمن.

وذلك لأن أولئك الذين يجهلون دروس التاريخ محكوم عليهم بتكرار نفس الأخطاء حتى يتعلموا من قسوة التجارب، أو شيء من هذا القبيل، إذ يكون التلاوم وعض الأصابع مجرد علامات على أعراض النهايات المأساوية. ويبدو هذا وكأنه مثال آخر على استسلامنا لغطرسة "الوقت"، عندما نعجز عن السيطرة عليه، ونفشل في إيجاد طريقة لعرض مشكلة "قديمة"، أو لا علاقة لها بمظالمنا "الحديثة"، فنرتكب الخطأ مرتين، أو ببساطة نفشل في التعلم من دروس التاريخ.

ولكنني أعتقد أن هناك ما هو أعمق من ذلك في هذه المسألة التي تؤرق كل ذي عقل يفكر، ويتعلق بأصل هذا التفكير، وكيف تهيأ لجمهرة من النشطاء أن يقفزوا على الحقائق، ويمتطوا جوادًا أقرب إلى الجنون منه إلى الحصان الأصيل الذي هذبه انضباط الوعي والبصيرة والنظام.

لكن يبدو أن ما نواجهه من عمى القلوب، التي هي في الصدور، هو أشد خطرًا على الحاضر والمستقبل، لأن ما يحدث الآن يتعمد تجريف "المكان" و"الوجدان" ويقلل من قيمة الإنسان. فكيف يتباهى القتلة والسارقون والمغتصبون بتصوير أفعالهم والاحتفاء بها وكأنها انتصارات على ما تبقى لهم من إنسانية؟ إنها بلا أدنى شك جاذبية "الفتنة" في حرب لا تعرف الأخلاق، والتي تدفع الحشود الغافلة بـ "عقلية القطيع" إلى ارتكاب أبشع الأفعال باعتبارها "غاية"، ويلعب ذلك دورًا في عدم الانضباط الذي يسيء إلى صورة وجودنا المشترك؛ في ماضيه وحاضره ومستقبله، أكثر مما نود الاعتراف به.

الأحوال والأهوال

إننا ندرك أنه في كثير من الأحيان، لا يتم دحض وجهات النظر السياسية القديمة بمنطق جديد، لأن الناس ببساطة يشعرون بالملل منها، ويرغبون في التوجه نحو آفاق جديدة من المعرفة بأحوالهم، لا أهوالهم، أو ما يهدد ضمانات عقدِهم الاجتماعي. ولكن ما نشهده الآن يتطلب تفسيره العودة إلى أسئلة البدايات؛ من نحن حقًا؟ وما قيمة الحياة إذا كان القضاء عليها مبررًا للاحتفال؟

وعلى النقيض من ذلك، يمكن لوجهة النظر المهملة في مسرح العبث هذا أن تنبعث من جديد، لأنها قد تحدد وجهتنا في هذه المرحلة الحرجة، إذا ما بقي لدى الناس طاقة عقل وقلب للتوافق على أهداف جديدة. والشرط الأساسي لهذه الأهداف الجديدة هو أن تكون أكثر انسجامًا مع وجهة النظر المستجدة لدى غالبية عقلاء السودانيين، المتوافقين على العيش سويًا في "الزمان" و"المكان". ولا يمكن إنكار أن التطورات التي يفرزها منطق الواقع الحديث قد ساعدت في إحياء أحوال وأهوال سبقت، وترسخت "سوداوية" معالمها في وعينا الجمعي. منها ما ارتبط بـ "الجهادية" و"المراحيل" و"الجنجويد" وإرث حركات التمرد المسلحة في الجنوب والغرب والشرق، وغيرها من "المطبات" التي تعترض طريق التحليق في سماء البناء الوطني.

ولسوء الحظ، لم نكن نعرف ما يكفي لكي نكون "على حق" بشكل منتظم، لنتمكن من الحكم على قصصنا الخاصة التي تعبر عن أفكارنا وأنفسنا، ولكوننا أمة كُتب عليها أن تعيش معًا. وكان على القوى السياسية والاجتماعية أن تتعامل مع هذه الحقيقة باعتبارها نقطة البداية في تحديد الأهداف، والتأكيد عليها من خلال وصف وسائل تحقيقها كمحركات لتفعيل كيفية عمل "الأشياء" كممسكات للوحدة الوطنية، لا كمسلمات لاستمرار الحال كما هو عليه.

ولكن نظرًا لما تراكم على مجتمعنا من أحقاد الماضي والحاضر، يجب ألا ننسى ذلك كثيرًا ونحن نتجه نحو المستقبل، بل يجب أن نصر على حفر هذه الدروس في وعينا، لأنه بينما يخطف الآخرون ما يظنونه الكلمة الفصل ليقولوا "أنتم تقومون فقط بالتخمينات والتطمينات"، كما لو أن الممارسة السياسية التي لم تصمد أمام الفحص الوطني الدقيق هي نفسها التي يجب علينا التذكير مجددًا بضرورة تجاوز نقائصها. ولذلك، فإن الأسئلة التي طرحناها لأول مرة في فجر الاستقلال ما تزال تنتظر الإجابة لتفسير لماذا تبدأ الحرب في السودان دائمًا قبل أن تستنفد الأطراف سبل الحل الأخرى.

في الختام

قد يبدو هذا الحديث مقلقًا لأصحاب "ربطات العنق الأنيقة" من النشطاء، الذين يجوبون العواصم مبشرين ومنذرين؛ حتى بعد أن ثبت أنهم لم يحفظوا للبشرى عهدًا، ولم يخيبوا ظن من أنذروهم بعظائم الأمور. ولكنهم، مع كل ذلك، يلهجون بالشعارات والتصريحات التي توحي بأنها مجرد مقدمات لتفسير الوضع الإشكالي الذي يكتم أنفاس السياسة السودانية الآن. ذلكم الوضع الذي ظلت بعض متلازماته مصاحبة لأداء الطائفية السياسية، و"الجوالة" من النشطاء، وجميع القوى السياسية "المؤدلجة"، طوال تاريخ الحقب الوطنية.

فمنذ عام 1956 وإلى يومنا هذا، نادرًا ما تم استدعاء الفكر، أو "الخيال" السياسي، لوصف وشرح أنواع معينة من التجارب الديمقراطية، أو الظواهر غير العادية للانقلابات العسكرية، أو تلك السلوكيات المحيرة للثورات الشعبية التي تثور ضد حكم العسكر، ثم تستدعيهم لمساعدتها ومشاركتها. وقد حدث ذلك في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وفي أبريل 2020، فكانت ثورات نصفها شعبي ونصفها الآخر انقلاب.

فقد ثبت أنه من الصعب للغاية تحديد ماهية "الخيال" السياسي للناشطين في هذه المعادلات المختلة التي تحتفي بتكرار الأخطاء وكأنها انتصارات. وإذا كانت "ممارسة السياسة" و"الشعارات الثورية" على طريقة الغوغاء لا تشيران إلى نوع معين من النشاط العقلي، فليس من المستغرب أن نجد أنه كان من الصعب تحديد ما هو بالضبط المراد في كل تجاربنا الانتقالية، وحتى أنظمتنا الديمقراطية التي استُخدمت في اختيار أعضائها آليات الانتخاب. وإذا كان خضوعنا لآليات "الانتخابات" يعبر جزئيًا عن تقييم من جانبنا للنشاط السياسي، فليس من المستغرب أن يتم التذرع به في محاولة تفسير هذه التجارب أو الظواهر، حين نكون غير متأكدين من مسائل الحقيقة السياسية، أو الوجود المشترك في "الزمان" و"المكان"، فنقتلع المعنى من جوهر السياسة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة